الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
حينما يَتَقاطر حجاجُ بيتِ الله الحرام، من فجاج الأرض البعيدة بالملايين؛ تلبيةً لدعوة التوحيد، التي أذَّن بها الخليلُ إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف السنين، يتأملون مشاهد التوحيد، التي تَرفُّ عليهم في تلك البقاع المقدسة:
منها: مشهد ترك إبراهيم الخليل - عليه السلام - فلذةَ كبده إسماعيل وأمَّه هاجر عند البيت العتيق، وتوجهه بالدعاء لربه الرحيم؛
ومنها: مشهد صبر هاجر في ذِات الله، وهرولتها بين الصفا والمروة وهي تستروح الماء لطفلها الرضيع، في تلك الحرَّة المتلهبة، وقد نهكها العطش، وأضناها الإشفاق على رضيعها.
ومنها: مشهد التضحية العظيمة، التضحية لله بفلذة الكبد، بعدما رأى الخليلُ الرؤيا، فلم يترددا؛ بل مضيا في طاعة الله؛
ومنها: تجلي رحمة الله البر الرحيم في الفداء بالِذبح العظيم
ومنها: مشهد إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت؛ إنابةً وخشوعًا لله:
ومنها: مشهد القِبْلة الواحدة، التي يتوجه إليها الجميع، ويلتقون عليها، حيث العقيدةُ الواحدة، التي تذوب في ظلها فوارق الجنس واللون والوطن، فيجد المسلمون قوّتَهم قوةَ التجمع والتوحد والترابط، والتي لا يقوم لها شيء، لو فاءت لرايتها الواحدة راية التوحيد: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}.
ومنها: مشهد شرف البيت وتعظيمه، وما وصف به شرعًا وقدرًا، من كونه:
مثابةً للناس: أي: مَحَلاًّ تشتاق إليه الأرواح، وتحنُّ إليه الأفئدة، فلا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام؛ استجابةً من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم - عليه السلام - في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.
وأمنًا من العدو:
ومنها: مشهد الحكمة البالغة في تشريع الحج، وما فيها من الخير العظيم، والمنافع الكبيرة، والعواقب الحميدة للمسلمين، ومن تلك الحكم: إخلاص العبادة لله وحده، ونبذ الشرك به - سبحانه وتعالى - مع التطهر من كل ما يخالف الشرع؛ باجتناب المعاصي كلها، سواء المطلَقة - كالسرقة والظلم - والمحرَّمة من أجل الحج؛ ***س المخيط، وغيرها مما حُرِّم على المُحْرِم، فمن حجّ ولم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن ثمّ لم يكن له جزاء إلا الجنة؛
ومنها: التلبية التي هي شعار التوحيد: "لبيَّك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، فأول ما يأتي به الحاج، إعلان توحيده لله، وإخلاصه له – سبحانه - وأن الله لا شريك له؛
ومنها: إقامة ذكر الله تعالى عند جميع المناسك من طواف، وسعي، ورمي جمار، وذبح وغيرها؛
ومنها: تذكر الموت والنشور؛ فلباس الإحرام يشبه كفن الموتى، وعندما يغتسل المحرم يتذكر غسل الميت، والوقوف على عرفة في صعيد واحد الذي يشبه بوم البعث.
هذا؛ وأسأل الله أن يرزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً، وتجارة لن تبور، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.